ليس هناك تمثيل اصدق للإحساس الذي تمثله عبارة " ضحك كالبكاء" كرائعة فاضل عواد هذه, أكثر الوان الحزن بلاغة هو الحزن المتظاهر بسعادة ؛ و هذا هو النبع الذي تترقرق فيه هذه المشاعر المختلطة من الجزل و الشجن التي تشكل سر سحر هذه الأغنية. هل يشكل إيقاع الاغنية المرح نوعا من الدفاع النفسي ضد الإعتراف بالأسى المطبق الذي تكتنفه كلمات الأغنية؟ – الموضوع لا يخرج عن مفردات الغناء العراقي ؛ حب ضائع و شماتة عذال....ولكن تلك المجلدات المكوية بالعذاب من الغناء العراقي كلها تستجدي عطفك في همل الدموع بمبالغة مسرحية متوقعة في ونينها, فهل يكون عزوف الأداء – موسيقيا و غنائيا – عن التمادي في العواطف, والإكتفاء بسلاسة متوسطة القوة يمثلها صوت عوّاد نفسه - صوت واضح في تلمس جمالية خامته و فهمه بلا خشونة و بلا صعوبة و دون أية من تلك الحشرجات و الآهات التي يعج بها الغناء الجنوبي...
هل هذه البساطة هي ما تجعل هذه الأغنية مؤثرة جدا؟ الشعور الذي يرسمه هذا الخليط صعب الوصف. إنها أغنية بسيطة ادائيا, ولكنها ذكية في توصيلها لإحساس "الحزن" بطريقة تلميحية حيث يخلو اللحن من اي نغمة متباكية, بل هو مشرّب بجمل موسيقية سكرية ذات حلاوة يمكن إستشفاف عبق البستات البغدادية القديمة فيها ؛ وذلك مزج لا أظن إتقانه امرا سهلا.
أم إن الأمر أبسط من ذلك؟ مجرد اداء جميل شاءت عشوائية الصدف التلحينية أن يكتنف شعوري الحزن و الفرح معا, وكلاهما محبب لنفس الإنسان تحت أية ظروف دون الحاجة لأية زخرفات موضوعية؟
لا أعرف تماما, ولكن هذا الشعور "الحامض حلو"* هو الذي يحزّ في نفسي بألم محبب كلما يرتفع صوت عوّاد في المقطع الثاني (الفيرس الأول), بعد مرح المقدمة : "لا خبر لا جفية لا حامض حلو لا شربت" الذي تتوارى وراءه لوعة خافتة, يتم استكشافها بشكل اوضح في ذلك المقطع الرائع التالي: "والتمن الحلوات من كل بيت حلوة إلتمن / و اطراف اصابع ليلة الحنة بعذابي إتحنن" ؛ الدهشة الضائعة في صوته تبدو لي كلحظة تفتق epiphany تسمّرني بحنين فظيع وهي ترسم صورة فائقة الجمال ترتبط عضويا بوطن لم اعرف قيمته و انا بداخله, مستسخفا تراثه و قيمه و عاداته و اخلاق اهله, متهما إياهم بالعشوائية و الهمجية , لقد عشت في ذلك الوطن عقدين هما عمري وجل إهتمامي كان يومها يوطوبيا بلاد الغرب التي أراها في نظافة هندامهم و اخلاقهم و تفكيرهم و براعتهم الناجزة في ألحانهم و افلامهم, واليوم و انا استعد لكي أحط الرحال إلى تلك البلاد لا يشاء السيد الكبير إلا ان يرميني في مرحلة إستشراق يعصى فهمي عن استيعاب كيف وجدتني هائما برحاها, فيالأبو عيسى و قسوة سخريته! فلا تطيب نفسي إلا باستشفاف صورة سحرية حالمة كونتها عن العراق السعيد الجميل بسمراته الملتمات , عراق الجميع فيه صادق و نزيه ببراءة أي اعلان من تلك المدفوعة الثمن, وهل هناك براءة أكثر من ان تنادي الحبيبة بمفردة "حبابة" الطفولية الساذجة؟ استلقي في فراشي مصغيا لفاضل عواد يشكي اليّ إنقطاع الخبر الساعة تلو الساعة, وانا مسلح بما لذ و طاب من المسابح و اليشماغات في محاولة إستحضار جاهدة لأرومة وطن قبل الرحيل...
حامض حلو: ما كان ببالي هو كلمة bittersweet و تفاجئت بان حلوى الحامض الحلو, الوارد ذكرها في الكلمات, أفضل تعبير عن هذه الدلالة.
لحظة تفتق: ترجمة سيئة لمفردة epiphany وهذه تعني لحظة كشف الحجاب عن سر عظيم يقلب الموازين.
أبو عيسى: السيد الكبير, الجبلاوي.
السنة: 1968
كلمات: طالب ياسين
الحان: حسين السعدي
مقام رست.
الكلمات:
نوادر متعلقة بالأغنية:
· كانت تبث من دار الاذاعة على مدار الساعة حتى ان احد رسامي الكاركاتير الظرفاء انذاك ـ رسم كاريكاتيرا في احدى الصحف العراقية لمذيع يفتتح برامج الاذاعة قائلا عبر المايكرفون "اعزائي المستمعين.. هنا اذاعة لا خبر.. بدلا من قوله هنا اذاعة العراق" لكثرة ما بثت تلك الاغنية من الاذاعة.
· هذه الاغنية لحنها الفنان الراحل (حسين السعدي) بنفسه لكن الاذاعة رفضتها فأراد توريط فاضل بها لانه لايعلم بمسألة رفضها لذا حين تقدم بها رفضت ايضاً! لكن الملحن الراحل ياسين الراوي الذي كان يقدم ويعد برنامجاً للهواة اخذ بيد فاضل عواد واغنيته لاخبر فقدمها وحصل على موافقة لبثها باعتبار ان برنامجه للهواة وليس للمحترفين وحين ثبت الاغنية انطلقت في سماء الشهرة والمجد وجعلت فاضل عواد من أشهر مطربي العراق وصارت الاغنية في الاعراس والمناسبات وقدمتها احدى الاذاعات أكثر من عشرين مرة متتالية.. وهكذا حصد نجمهة على نحو لم تشهده الاغنية العراقية مع مطرب اخر.
· كانت تسمى تندرا: "النشيد الوطني للعراق".
مقطع يوتيوب لفاضل عوّاد مع مغنية أردنية إسمها دلال الشمالي, كانت زوجة البعثي السابق إبراهيم الزبيدي و هي تؤدي اغنية "الجواب" ل "لا خبر" , تستهل الأغنية بموال قصير يقرأ فيه الدكتور فاضل البيتين المذكورين في رأس المقال.